في الضاحية الجنوبية… أيلول طرفه بالحياة مبلول./ نادين خزعل.
في الضاحية الجنوبية، ليس شهر أيلول هذا العام عاديًا، بل هو احتدام أزمنة تختلط فيها الذاكرة بالنار والركام، بالدمار والموت ولكن على أقانيم الأمكنة تتجدّد الحكاية: حكاية أهالٍ قرّروا أن يحصدوا من قلب الدمار حقول حياة.
Thank you for reading this post, don't forget to subscribe!
في شوارع الضاحية الجنوبية التي غيرت الحرب معالمها ولم تغير ملامحها، يعود المشهد كما كان دائمًا: أطفال يحملون حقائبهم المدرسية، محال تفتح أبوابها باكرًا، رائحة خبز تسبق خطوات الأمهات، وابتسامات الشباب تملأ الأزقة المزدحمة.
كل الحملات الإعلامية الموتورة التي توحي بأن الضاحية مدينة خالية، ميتة، منكوبة لا تنهض، تتكسر عند أول مشهد واقعي يلتقطه العابر: حركة السير الخانقة، الزحمة عند أبواب المدارس، الازدحام في الأسواق، ضحكة أطفال يركضون بين الأبنية.
الضاحية الجنوبية تصدح: نحن هنا، حاضرون، أحياء، وحياتنا أقوى من موتهم.
أيلول الضاحية مبلول بطرف الحياة، لأن دمعة أمّ لا تعني الاستسلام، بل هي دمعة تنبثق منها القوة، ولأن بيتًا تهدّم بالأمس يعاد بناؤه اليوم، ولأن كل حجر يتساقط من سقف، يقابله حجر جديد يُرفع في ورشة إعمار.
في الضاحية الجنوبية، الحياة فعل مقاومة يضاهي أعتى مواجهة عسكرية، و الردّ الأبلغ على محاولات العدو فرض اليأس.
الأحياء التي استهدفت مرارًا، تعود لتزدهر. المقاهي تستقبل روّادها، المؤسسات التجارية تنشط، المدارس تعلن بداية عام دراسي جديد، والطلاب يرفعون كتبهم في وجه كل تهديد. الضاحية لم تنكسر يومًا، بل ازدادت رسوخًا. هي مساحة تصنع معنى الصمود، وتمنح للبقاء قيمة.
أرادها العدو أرضًا خاوية، فإذا بها مزدحمة بالناس والضحكات. أرادها مدينة للركام، فإذا بها تُعلي من تحت الركام مباني جديدة. أرادها رمادًا، فإذا بها تُزهر شرفات مزدانة بالياسمين والريحان. أراد أن يقتل فيها نبض الحياة، فإذا بها تردّ بأعلى صوت: نحن أبناء الحياة، لا أبناء الموت.
أيلول في الضاحية الجنوبية ليس محطة بكاء، بل فصل ولادة. يولد فيه الإصرار من رحم الجراح، ويولد فيه الأمل من بين ركام البيوت. الناس هنا لا يعيشون رغم الحرب، بل يعيشون ضد الحرب، يكسرون منطق الموت بالإصرار على الحياة. كل طفل يذهب إلى مدرسته، كل عامل يفتح متجره، كل امرأة تزرع نبتة على شرفتها، هم قصيدة حياة تُكتب بوجه العدوان.
أيلول الضاحية الجنوبية شاهدٌ على أن هذه الأرض ليست مجرد مكان، بل رسالة بأن الإرادة أقوى من السلاح، وإن الحياة أعمق من الموت. في الضاحية الجنوبية، أيلول طرفه بالحياة مبلول، وسيبقى كذلك ما دام هناك قلب يخفق، وبيت يُبنى، وطفل يحلم، وأهل يصرّون أن يكتبوا بالعرق والدم والدمعة عنوانًا واحدًا: نحن هنا… والحياة لنا.
هي الضاحية الجنوبية، تتجاوز الجغرافيا لتشمخ في التاريخ:
دمعة أمّ على صورة شهيد تتحوّل صلاةً،
أغنية في زحمة السير تختلط بأبواق السيارات،
لوحة جدارية تعيد رسم وجه الوطن على جدار أُريد له أن يكون أثرًا للخراب.
في الضاحية الجنوبية…
الحياة ليست نقيض الموت، بل انتصارًا عليه، هنا لا تُهزم الشوارع ولا تُغلق المدارس، بل يُكتب من كل ألم قصيدةُ عناد.
هنا، يُعاد تعريف الوجود: أن تبقى رغم كل شيء، أن تبتسم رغم كل شيء، أن تقول بوجه العدو: لن تنجح، لأننا نحب الحياة.
وهكذا، يبقى أيلول الضاحية الجنوبية طرفه بالحياة مبلول،
تغسله الدموع والضحكات معًا،
يُزهر على الأرصفة، في دفاتر التلاميذ، في عيون الأحبة…
أيلول الضاحية الجنوبية طرفه بالحياة مبلول، كأن الغيم يسجد على ترابها، يبارك دمعةً استحالت نبعًا، وجرحًا أزهر بستانًا.
هنا، حيث ظنّ العدو أنّ الموت سيُقيم عرشه، انبثقت الحياة كمعجزة.
كأن الأرض ترفض أن تُدفن، فتشقّ صدر الركام وتُنبت سنابل جديدة.
كأن الأطفال، بحقائبهم الملوّنة، ملائكةٌ صغار يكتبون على الأرصفة أناجيل الحياة:
نحن أبناء النور، لا أبناء الظلمة.
في الضاحية…
الموت لا يُنهي الحكاية، بل يُكمّلها.
الدموع لا تُغرق، بل تُطهّر.
الخراب لا يطمس، بل يكشف جوهرًا أبديًا: أن الوجود فعل مقاومة، وأن الوجود في ذاته صلاة.
هنا، تذوب الحدود بين الحياة والموت.
فالشهيد حاضر في ابتسامة ابنه، وصوته يتردّد في أذان الفجر.
والبيت المهدوم يعود بيتًا، كأن الجدران تعرف أنّ الروح لا تُهزم.
والشوارع التي ضاقت بالركام، تُفتح اليوم على مصاريعها لتستقبل خطوات المارة كخطوات حجّاج يطوفون حول قدسهم.
أيلول الضاحية الجنوبية…
محراب واسع، تتوضأ فيه الأرصفة بندى الصباح.
في الضاحية الجنوبية…
الناس لا يعيشون رغم الموت، بل يعيشون بالموت، ومن خلاله، وبوجهه.
يحوّلون الفناء إلى خلود، والغياب إلى حضور، واليأس إلى رجاء.
أيلول الضاحية الجنوبية طرفه بالحياة مبلول…
قطرةً من دمع، قطرةً من مطر، قطرةً من دم…تتجمّع نهرًا، يجري عكس إرادة الموت،ويُعلن للكون أن في الضاحية سرًّا لا يُفنى:
الحياة، وهي تتوهّج في قلب النار.
في الضاحية الجنوبية…
حتى الركام يتلو صلاته صامتًا، ويقول: لا يغلب العدمُ من أحبّ الحياة.
العدو أراد أن يقطع النبض، فإذا بالنبض يتسع حتى صار كونيًّا.
أراد أن يطفئ قنديلًا، فإذا بالمدينة كلها تتحوّل مجرّة من أنوار.
أراد أن يزرع الصمت، فإذا بالأصوات تتردّد تراتيل لا تنتهي:
الحياة سرّنا، والموت طريقنا، والبقاء وجهنا الآخر.
في الضاحية الجنوبية…
الناس لا يعيشون ضد الموت، بل يعبرون من خلاله، يرونه بابًا، لا سدًّا.
يؤمنون أن كل لحظة ألم هي تجلٍّ للمعنى، وأن كل قطرة دم هي حبّة في مسبحة الوجود.
أيلول الضاحية الجنوبية…
قصيدة مكتوبة بحبرٍ من دم ومطر وفقد ووجع..
وترتيلٌ يتردّد بين السماء والأرض..
يقول للكون أجمع:
إننا نحب الحياة حبًّا يجعل الموت نفسه ينهزم،
وإننا نغرس في حضن الفناء شجرةً خضراء لا يذبل ورقها،
اسمها الحياة الأبدية.