خطاب ترامب في الأمم المتحدة (أيلول 2025): بين صناعة الوهم وتزييف الوقائع/ د. محمد حسن سعد
د. محمد حسن سعد
Thank you for reading this post, don't forget to subscribe!
جاء خطاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 23 أيلول/سبتمبر عام 2025 ليعيد إنتاج صورة مألوفة من خطاباته السابقة: لغة استعراضية، ووعود بالإنجازات العظيمة، وإصرار على قلب الوقائع رأساً على عقب. بدا ترامب في خطابه وكأنه يكتب تاريخاً بديلاً للعالم، حيث هو الشخصية المحورية التي تنهي الحروب وتعيد الأمن والإستقرار، فيما تتخبط الأمم المتحدة وتغيب عن المشهد.
لكن المفارقة أن هذا الخطاب جاء في وقت تتزايد فيه التحديات العالمية: حرب مستمرة في أوكرانيا، حرب إبادة إسرائيلية متواصلة في غزة بدعم أميركي مطلق وغير محدود، أزمة إنسانية في السودان واليمن، واحتقان متجدد ومتصاعد في بحر الصين الجنوبي. في هذا السياق، يصبح خطاب ترامب أكثر من مجرد خطاب إنتخابي موجّه لقاعدته الداخلية، إنه محاولة لتصدير سردية أميركية أحادية تتجاهل الحقائق على الأرض، وتبرر السياسات الأحادية للولايات المتحدة.
الصحافة الأميركية والأوروبية لم تتأخر في فضح التناقضات. نيويورك تايمز وصفت خطابه بأنه “استعراض بلا وثائق”، فيما اعتبرت واشنطن بوست أن ادعاءاته عن “الاحترام غير المسبوق” تتناقض مع ازدياد عزلة الولايات المتحدة عن شركائها التقليديين. هذا التباين بين الصورة التي رسمها ترامب والواقع الذي تشهده الساحة الدولية يكشف خطورة ما يمكن وصفه بسياسة “صناعة الوهم”، أي تقديم خطاب مبالغ فيه، بلا أدلة، لإعادة صياغة الذاكرة الجماعية والتأثير على الرأي العام.
صناعة الأسطورة: “إنهاء سبع حروب في سبعة أشهر”
ادعى ترامب أنه أنهى سبع نزاعات مسلحة امتدت لعقود في غضون سبعة أشهر، وذكر نزاعات بين الهند وباكستان، و”إسرائيل” وإيران، وأرمينيا وأذربيجان، وكوسوفو وصربيا، والكونغو ورواندا، ومصر وإثيوبيا!، وكمبوديا وتايلاند.
لكن الحقيقة التي لا لبس فيها، أنه لا يوجد في سجلات الأمم المتحدة، ولا في تقارير مجلس الأمن، أي إشارة إلى اتفاقات سلام موقعة أو موثقة في هذا الإطار، بل أبعد من ذلك، لم تصدر وزارة الخارجية الأميركية بيانات رسمية تؤكد هذه الادعاءات. بل على العكس، استمرت بعض هذه النزاعات في الاشتعال، وتنذر مشاهدها ووقائعها المزمنة انها قابلة للانفجار مجدداً وبمستويات غير مسبوقة.
هذا النوع من الادعاءات يدخل ضمن ما نسميه في علم السياسة بـ “الخطاب الأسطوري”، حيث يُقدَّم “الزعيم” بوصفه بطلاً فوق دولي قادراً على تحقيق ما عجزت عنه المؤسسات الدولية خلال عقود. إنها محاولة لإعادة كتابة التاريخ بطريقة شعبوية، حيث يختفي دور الأطراف المتعددة، وتُختزل التعقيدات في صورة رجل واحد.
الهجرة والسياسة الداخلية: من الأرقام إلى التضليل
في خطابه، أعلن ترامب أن الحدود الجنوبية للولايات المتحدة شهدت “صفر مهاجرين غير شرعيين” لأربعة أشهر متتالية، لكن تقارير وزارة الأمن الداخلي الأميركية (DHS) لعام 2025 تكشف استمرار محاولات عبور بمعدل عشرات الآلاف شهرياً، وإن كان بعضها قد انخفض بفعل إجراءات مؤقتة.
كما أشارت المنظمات الحقوقية مثل هيومن رايتس فيرست Human Rights First إلى أن هذه الانخفاضات ترتبط بعمليات طرد جماعي سريعة، وتعليق مؤقت لبرامج اللجوء، أكثر مما ترتبط بوقف “التدفق”. وعليه، فإن ادعاء “الصفر” ليس سوى إعادة صياغة دعائية للواقع، يهدف إلى تصوير السيطرة المطلقة حيث لا وجود لها.
هذه المبالغة في الأرقام تخدم هدفاً داخلياً مزدوجاً: أولاً، مخاطبة القاعدة الانتخابية المحافظة التي ترى في الهجرة تهديداً للهوية القومية، وثانياً، تقديم صورة عن “الرئيس الحامي للحدود” في مواجهة ما يسميه ترامب “فوضى الإدارات السابقة”.
الاحترام الدولي: خطاب في مواجهة الحقائق
ترامب قال: “أميركا اليوم تحظى باحترام لم يسبق له مثيل”، لكن الاحترام في العلاقات الدولية لا يُقاس بالتصريحات، بل بالتحالفات، ومستوى الثقة، وأنماط التصويت في الأمم المتحدة، والقدرة على بناء توافق عالمي، لكن التقارير الأوروبية تشير إلى عكس ذلك: في قمة الناتو التي انعقدت في حزيران/يونيو عام 2025، لم يتفق “الحلفاء” على رفع إنفاقهم الدفاعي إلى 5% كما زعم ترامب، بل التزموا بزيادة تدريجية إلى حدود 2.5 ـــ 3%. وقد اعتبرت الصحافة الألمانية والفرنسية تصريحات ترامب محاولة لإعادة نسب إنجازات جماعية إلى نفسه.
أما في آسيا، فإن تصاعد النفوذ الصيني والروسي لم يكن ليحدث بهذه القوة لولا تراجع الالتزامات الأميركية في المنطقة. من هنا، فإن الحديث عن “احترام غير مسبوق” يبدو معزولاً عن الواقع الذي يشير إلى تآكل النفوذ الأميركي التقليدي.
غزة: الرهائن في مقابل التجويع
في تناوله للحرب على غزة، ركز ترامب على قضية الرهائن ورفض حماس “عروض السلام”، لكنه تجاهل تماماً التقارير الأممية التي توثق حصاراً خانقاً أدى إلى تجويع أكثر من مليوني إنسان.
وقد أكد تقرير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية OCHA في أيلول/سبتمبر 2025 أن 470 ألف شخص في غزة يعيشون في المرحلة الخامسة بمعى انهم يعيشيون ظروف المجاعة الكارثية، وذلك وفق نظام التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي IPC ( هو نظام عالمي متخصص في قياس وتحليل مستويات انعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية، طورته وكالات أممية (مثل الفاو FAO، WFP برنامج الأغذية العالمي، اليونيسف UNICEF، وغيرهم) ، بينما يعاني أكثر من مليون آخرين من انعدام الأمن الغذائي الحاد.
إن هذا التناقض بين الخطاب الأميركي الرسمي والوقائع الميدانية لا يفضح فقط ازدواجية المعايير في مقاربة واشنطن للقانون الدولي الإنساني، بل يكشف أيضاً عن استغلال منبر الأمم المتحدة لتكريس سردية أحادية تتجاهل عمداً البعد الإنساني الموثّق وتغض الطرف عن الانتهاكات الاسرائيلية الجسيمة المدعومة أميركياً في غزة. وبذلك، يتحوّل خطاب ترامب من مجرد تجاهل للمعاناة الفلسطينية إلى فعل سياسي يُضفي شرعية ضمنية على استخدام التجويع كسلاح حرب، في خرق فاضح لميثاق الأمم المتحدة، وللقواعد الآمرة في القانون الدولي، وللغاية الأساسية التي أنشئت من أجلها المنظمة الدولية: حماية السلم والأمن الدوليين وصون الكرامة الإنسانية.
أوكرانيا: وهم القيادة الفردية
قدّم ترامب في خطابه رواية مبسّطة حول الحرب في أوكرانيا، مدّعياً أنها “لم تكن لتحدث” لو كان في البيت الأبيض، وأنه قادر على إنهائها بسرعة بفضل “علاقته الجيدة مع بوتين”. غير أن هذا التصوّر الشخصاني للنزاعات الدولية يُقصي العوامل البنيوية التي قادت إلى الحرب، ويُحوّل صراعاً جيوسياسياً معقّداً إلى قصة علاقة فردية بين زعيمين. في المقابل، توضح مراكز أبحاث كـ Brookings وCarnegie أن الحرب في أوكرانيا نتاج تراكمات إستراتيجية تتصل بـتوسع الناتو شرقاً في الفضاء السوفياتي السابق، وهو توسع اعتبرته موسكو تهديداً مباشراً لأمنها القومي وخطاً أحمر تم تجاوزه مراراً. إلى جانب ذلك، ارتبط الصراع بمحاولات غربية حثيثة لاحتواء روسيا وإضعافها عبر عزلها سياسياً، واستنزافها عسكرياً واقتصادياً، وصولاً إلى ما نسميه في العلاقات الدولية بــ “فخ الاستدراج” (Entrapment Trap)، أي دفع روسيا، عبر الضغوط المتراكمة والتوسّع الأطلسي، إلى خيار الحرب بوصفه المخرج الوحيد لحماية مجالها الحيوي.
إلى جانب ذلك، لعبت أزمة الهوية الروسية دوراً محورياً، حيث سعت موسكو إلى إعادة تثبيت مكانتها كقوة عظمى في مواجهة ما تعتبره تغوّلاً غربياً. كما شكّل الصراع على موارد الطاقة والبنية التحتية الإستراتيجية، ولا سيما خطوط الغاز نحو أوروبا، بُعداً إضافياً جعل أوكرانيا مسرحًا لصراع جيو ـــ إقتصادي عالمي.
إن تجاهل ترامب لهذه الحقائق لصالح خطاب “أنا وحدي أستطيع” لا يُعد فقط تبسيطاً مخلاً، بل هو تزييف للوعي العام الأميركي، فهو يُغطي على الدور الهيكلي لتوسع الناتو ولإستراتيجية الاحتواء الغربي، ويُفرغ النقاش من بعده الجيوسياسي، ليقدّم صورة مشوهة عن نزاعٍ يتجاوز العلاقات الشخصية، إلى صراع وجودي بين روسيا والغرب على شكل النظام الدولي القادم.
الأمم المتحدة: من مؤسسة دولية إلى كبش فداء للخطاب الشعبوي
في خطابه، اتهم ترامب الأمم المتحدة بأنها “تموّل غزواً للمهاجرين”، في إشارة إلى برامج المساعدات النقدية الموجّهة للاجئين والنازحين. غير أن هذه البرامج، وفق ما تؤكد تقارير أممية مستقلة، تهدف أساساً إلى تأمين الحد الأدنى من مقومات البقاء في مناطق لجوء آمنة، وليس إلى تشجيع الهجرة غير النظامية أو عبور الحدود. إن هذه المقاربة تكشف عن عداء متجذر لدى ترامب تجاه المؤسسات الدولية، لكنها في العمق توظّف الأمم المتحدة كشماعة سياسية تُعلّق عليها إخفاقات السياسات الداخلية الأميركية، لا سيما في ملف الهجرة. وبهذا يتحول الخطاب إلى شعبوية صريحة: إلقاء اللوم على الآخر، بدل صياغة حلول واقعية ومستدامة للمشاكل البنيوية داخل الولايات المتحدة.
الطاقة المتجددة: إنكار علمي وعزلة إستراتيجية
هاجم ترامب في خطابه الطاقة المتجددة واصفاً إياها بـ”المزحة”، ومتهكماً على مزارع الرياح باعتبارها “بائسة وغير فعّالة”. غير أن البيانات الصادرة عن الوكالة الدولية للطاقة (IEA) ووحدة بحث وتحليل الطاقة المتجددة، انتقال الطاقة، التكنولوجيا النظيفة، والسياسات المناخية التابعة لوكالة بلومبرغ العالمية Bloomberg New Energy Finance تؤكد عكس ذلك تماماً، إذ شكّلت الطاقة الشمسية والرياح أكثر من 80% من الاستثمارات الجديدة في قطاع الكهرباء عالمياً عام 2025، ما يجعلها العمود الفقري للتحول الطاقوي على مستوى العالم. هذا الخطاب لا يعكس فقط تمسّكاً بالنموذج الأحفوري القديم القائم على النفط والغاز والفحم، وهي المصادر الرئيسة لانبعاثات الكربون وتفاقم أزمة المناخ، بل يضع الولايات المتحدة في موقع تناقضي مع الاتجاه العالمي نحو التحول الأخضر. ونتيجة لذلك، يصبح الموقف الأميركي، كما عبّر عنه ترامب، ليس مجرد سياسة طاقة تقليدية، بل خياراً إستراتيجياً يُهدد بعزل الولايات المتحدة عن الأسواق الناشئة والتكنولوجيات المتقدمة التي تُعيد تشكيل الإقتصاد العالمي.
ختاماً، إن خطاب دونالد ترامب أمام الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول/سبتمبر 2025 لم يكن مجرد استعراض سياسي، بل مثّل تجسيداً لسياسة “بناء الوهم” على المسرح الدولي. فمن مزاعم إنهاء سبع حروب مستعصية، إلى ادعاء تحقيق “صفر مهاجرين”، وصولاً إلى تسفيه الطاقة المتجددة ووصمها بـ”المزحة”، انكشف خطاب يقوم على المبالغة المتعمدة وتزييف الوقائع بغرض إعادة صياغة وعي الجمهور وتغذية النزعة الشعبوية.
لكن خطورة هذا الخطاب تتجاوز حدود الداخل الأميركي، إذ إن إطلاق الأكاذيب على أرفع منبر دولي، دون مساءلة أو ردع، يُقوّض هيبة القانون الدولي ويُضعف المؤسسات متعددة الأطراف، كما يفتح الباب أمام قادة آخرين لتبني خطاب مشابه يشرعن الانتهاكات ويجعل التضليل أداة مشروعة للسياسة الخارجية. وفي النهاية، يظل العالم بحاجة إلى ما هو أبعد من الشعارات والبلاغة الشعبوية: حاجة إلى الحقائق الموثقة، والالتزام بالقانون الدولي، ورؤية جماعية تعيد الاعتبار للعدالة والاستقرار في النظام العالمي.